لاأطالع بدهشة أخبار العنف فى المدارس الحكومية التى تنشرها الجرائد يوميا، نعم أنها لا تدهشنى كما تدهش البعض، فمن وجهة نظرى ما يحدث الآن هو نتيجة طبيعية للعديد من التداعيات والحقائق المهملة.
أن العنف بجميع أشكاله والذى يشمل أيضا التحرشات و الأعتداءات الجنسية،
ما هو الا تعبير عن حالات من الكبت التى يعانى منها العديد والعديد من الأطفال والمراهقين وخاصة من الطبقات الفقيرة فى المدارس الحكومية.
إن العملية التعليمية من وجهة نظر المسئولين، هى مجرد تغيير المناهج سنويا،أو تقليل سنة أو زيادة سنة، أى ينحصر التعليم فى الكتاب سواء مدرسى أو خارجى ليس أكثر، وفى الحقيقة أن العملية التعليمية هى معاناة بجميع المقاييس لتلاميذ المدارس الحكومية.
وأفند هنا وجهة نظرى تلك للمسئولين فربما تكون بعض الحقائق غائبة عنهم:
1- الأبنية : إذا نظرنا إلى حال معظم المدارس الحكومية كمبانى فسنجدها متردية لأقصى الحدود
فمعظم المدارس لا تصلح كمكان للتعليم الأدمى ويحشر معظم تلاميذ مدارس الحكومة فى فصول لا يقل تعدادها عن 40 طالب فى الفصل. ترى ما هو شعور طفل يذهب يوميا الى مدرسته وهو يعلم علم اليقين أنه محشور وسط أقرانه فى الفصل على دكة قد لا تكفى سوى لـ 2 بينما يجلسون 3 عليها، وربما تكون نوافذه مكسورة فى فصل الشتاء أو لايحتوى على مروحة فى فصل الصيف. ويقوم بتعليم هذا الكم من التلاميذ مدرسين يعانون من كبت ما ولا يجدون وسيلة أمامهم سوى التلاميذ لتفريغ شحنات القهر فيهم، ومهما بلغت سمو ورقى أخلاق بعض المدرسين، فلابد وأن يهزمهم القهر يوما ما، ولك أن تتخيل معاناة التلاميذ فى تلك الحالة. ولن أتحدث عن قذارة دورات المياه وعدم توفر المياه فى العديد والعديد من المدارس وعن قذارة المدرسة نفسها (كيف نطالب التلاميذ بالحرص على النظافة بينما المدارس لا توفر لهم بيئة صحية للتعليم؟) وكيف يمكن أن نسمو بأرواح مثل تلك المخلوقات ونحن نعرضهم يوميا إلى أشكال متنوعة من المعاناة والقرف بأنواعه.
2- ممارسة الرياضة: لاتحتوى معظم المدارس على فناء للممارسة الرياضة ومن المعروف أن الرياضة هامة جدا ليس فقط للحصول على بدن صحيح معافى، ولكن لأن الرياضة تساعد على تفريغ شحنات الكبت العاطفى والجنسى للمراهقين سواء أولاد أو بنات وهى حقيقة علمية لا فصال فيها، فتخصيص حصتين للرياضة أسبوعيا فى المدارس كفيلة بأن تخرج طاقة مثل هؤلاء المراهقين، وتهذب لحد ما أحاسيس الاحتياج العاطفى فى هذا السن والذى مما لا شك تأججه ظروف معيشة ضحلة، ومعاملة قاسية من الأهل، فيتحول ذلك الشعور إلى ثور هائج بدلا من أن يكون حملا وديعا لأنه لا يجد مخرجا أمنا له. ومن غرائب التعليم بأن يكون الرسم مادة أجبارية فى الشهادات العامة بينما لا يفقه التلاميذ شىء عن هذه المادة ولا يعرف حتى معنى تذوق الفن بل ويتجه البعض إلى الغاء حصص الموسيقى والرسم من المدارس لعدة أسباب ومنها عدم توفر كوادر تدريس لتلك المواد وعدم توفر حجرات لها ولا مانع بأن يقوم البعض بتحريمها بفضل التخلف الذى نعانى منه ليلا ونهارا. ولم يعد يهتم المدرس بأكتشاف مواهب الطفل من خلال قراءة موضوع تعبير أو من خلال إلقاء الشعر أو تلاوة القرآن وبالطبع لامجال لأكتشاف أى مواهب رياضية أو فنية أو حتى فى كتابة الخطوط.
3- المواصلات: يأتى معظم التلاميذ من بيئة فقيرة إلى حد ما وقد يضطر البعض إلى الذهاب\العودة إلى\من المدرسة سيرا على الأقدام شتاءا وصيفا، والبعض الأخر يضطر الى ركوب الميكروباص ولتقريب هذه الصورة للمسئولين بشكل أفضل أدعوهم لزيارة مجمع المدارس فى المعادى وهى منطقة معروفة هناك لأنها تحتوى على العديد من المدارس الحكومية سواء أبتدائى وأعدادى وثانوى، والذى يحدث أن كل هؤلاء الطلبة يخرجون جميعا فى نفس الوقت ويتدافعون فى سباق محموم لركوب الميكروباصات التى ستقيلهم إلى منازلهم، ويمكنك تخيل معاناة تلاميذ فى أبتدائى وأعدادى وهم يتدافعون للحصول على مكان (مع حدوث العديد من المشاحنات) أو المعاناة فى الأنتظار المزيد من الوقت ليتمكنوا من الحصول على مكان. وربما لم يرى البعض منظرا مألوفا فى بعض المناطق، حين تقوم سيارة بيك أب بنقل تلاميذ المدارس فيبدو التلاميذ فيها وكأنهم قطيع من الأغنام أو الماعز.
3- التفاوت الطبقى: يرتاد المدارس الحكومية نسبة لا بأس بها من أبناء الطبقة المتوسطة الذين لا يقدر ذويهم على مصاريف المدارس التجريبية أو المدارس الخاصة، ويكون هؤلاء هدفا سهلا لأبناء الطبقة الفقيرة لبعض المناغصات فى المرحلة الأبتدائية
والتى تشمل سرقة بعض الأدوات أو الحلويات وتتاعظم تلك المناغصات الى مشاحنات فى المرحلة الأعدادية بشكل عنيف وفى المرحلتين لا يملك طالب الطبقة المتوسطة سوى خيارين، أما أن يكون ضعيفا تجاه ما يحدث له ويتحامل ويتغاضى عن ما يحدث لأنه يريد أن تمر أيامه فى المدرسة بسلام الا انه يحمل بداخله كم من القهر والأحساس بالعجزلا يشعر به حتى أقرب الناس إليه وسيتعاظم هذا الأحساس بداخله إلى أن ينفجر يوما، أما أن ينضم إلى زمرة العنف بدوره حتى لا يشعر بالضعف والعنف هنا عادة ما يبدأ بشرب سيجارة وأخفاء سنجة فى ملابسه ومعاكسة تلميذات المدارس المجاورة إلى أن تتفاقم الأمور بشكل يفاجىء الجميع. وربما يظن البعض أننى أبالغ ولكن للأسف أن هذا واقع لمسته أنا شخصيا عن طريق مصدرين مختلفين تماما الأول يتعرض أبن أبتدائى لسرقة ما يحمله من عصير يوميا فيقوم تلميذ أخر بخطف ما يحمل ويفر ولا يعرف حتى من الفاعل فقررت والدته الا ترسل عصير أو أى مأكولات معه أثناء الدراسة.
والحالة الثانية لتلميذ فى أعدادى تم نقله لظروف مادية لمدرسة حكومية فيسمع يوميا كم من البذاءات والشتائم مع وجوده فى وسط طلبة يدخنون ويحملون أسلحة بيضاء فكان أن أنهار وتم عرضه على طبيب نفسى.
ومعظم أبناء الطبقة الفقيرة أيا كانت وظيفة الأب أو الأم فهم بلا شك يعانون من عدة أمراض أجتماعية تشمل الفقر أو سوء التربية أو الأهمال من جانب الأهل بالأضافة إلى الأعتقاد بأن التعليم ما هو الا عالة على الأبوين وبأنها مرحلة وسوف تنتهى قريبا فتجد أن الأغلبية وخاصة البنات يرفض الأهل تكملة تعليمهن حتى وأن كانت الفتاة متوفقة دراسيا فتخرج من الأبتدائية أو الأعدادية وهى تلعن الظروف التى جعلتها لا تكمل تعليمها وفى نفس الوقت تجد أن أهلها يلعنون الظروف هم أيضا ويعيش الجميع فى سلسلة من اللعنات المقهورة والمكبوتة التى لا تنتهى. أما الفتى فيجبره الأب وشظف العيش على العمل ربما بعد اليوم الدراسى أو أن لا يكمل تعليمه (وهذا ما يحدث فى أغلب الأحيان) أو أن يلتحق بالتعليم الصناعى والذى لا يخرج سوى شرذمة من العصابات والتى ستتحول مع الأيام الى مافيا منظمة لو تركت مثل هذه المدارس بدون رقابة ورغم أن هذه المدراس لها أهمية كبرى فى جميع بلدان العالم الا أنها فى مصر تضم فئة من الفشلة دراسيا ومن خلال سنوات الدراسة فى التعليم المهنى المجانى يفقدون أدميتهم.
بالأضافة الى كل هذه النقاط يشعر تلميذ المدرسة الحكومية أنه صفر ولا أهمية له فى هذه العملية التعليمية بل فى الحياة كلها فعالمه لم يعد ضيقا بل أصبح يرى ويسمع عبر التلفاز والأنترنت عن التميز الذى يحظى به تلميذ المدارس الخاصة والرعاية التى تشمله فالمدارس مختلفة والطاقم التعليمى مختلف يكفيه أن يرى سيل الأعلانات التى لا تنتهى عن المدن الفاضلة التى تحتوى على مدارس بها أشجار خضراء ومراجيح ومدرسين تعلو الأبتسامة وجوههم.
فمن أبسط الحقوق أنه لا تتوفر خدمة الأخصائى الأجتماعى فى المدارس الحكومية وأن تواجدت فهى موجودة لأى عمل أخر غير دراسة أحوال التلاميذ ومحاولة حتى الأنصات إليهم.
هل يمكن بأى حال من الأحوال مطالبة هؤلاء الأطفال والمراهقين بأن يكونوا على خلق والا ينساقوا لتيار العنف بكل أشكاله؟؟
قال الدكتور طه حسين أن "التعليم كالماء والهواء" أى أنه من الضروريات فى هذه الحياة ولأجل ذلك أصبح التعليم مجانيا فلا يجب أن يشكل هذا التعليم عبأ على الدولة بأى حال من الأحوال، بل ولا بد من وجود مشروع قومى لينهض بالتعليم المجانى (والذى يشمل التعليم المهنى) يقوم به العديد من رجال الأعمال بالتعاون مع مسئولى التعليم فى مصر وأن ما يحدث الأن هو مجرد ناقوس أنذار بحالة من الخطر ليست بالهينة.
أن التعليم ليس مرهونا بالمقدرة المالية للمواطن المصرى الكادح ومن حق كل طفل أن يحصل على تعليم راق حتى وإن كان هذا الطفل فقيرا فليس هذا ذنبه وليس ذنبه أنه رقم 5 أو 6 أو 7 فى ترتيب الأخوة فهو لا يعرف معنى تنظيم النسل. إن التعليم هو بوابة أى طفل نحو مستقبل أفضل ولا يكون هذا من خلال قلم ومسطرة وكراسة وكتاب فقط بل من خلال توافر بيئة تعليمية صحيحة شاملة. ليحتل التعليم المجانى المكانة المرموقة في إنتاج المعرفة وتكوين الأساتذة والعلماء والدكاترة والمهندسين والباحثين ليساهموا في النهوض ببلدنا.
قلمى